محمد إقبال.. الفيلسوف الشاعر
عدد مرات المشاهدة: 50 عدد مرات الإرسال: 0
مولده وتعليمه:
وُلد محمد إقبال في دولة باكستان في مدينة "سيالكوت "في إقليم البنجاب في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1289هـ، الموافق 9 من نوفمبر سنة 1877م، لسلالة أصلها براهمية من الطبقات العليا في المجتمع الهندي، وقد أسلم جدُّه الأكبر قبل ميلاده بثلاثمائة عام، فنشأ إقبال منعَّمًا بالإيمان، ومتعلِّقًا به، وقد حفظ القرآن الكريم، والتحق بمدارس بلدته الابتدائية والثانوية، ثم التحق بالكليَّة الحكوميَّة.
ثم أُرسل لبراعته ودقَّته إلى لندن عام 1905م ليلتحق بجامعة كامبردج، وقد حصل هناك على درجة علميَّة مرموقة في الفلسفة وعلم الاقتصاد، فرحل إلى جامعة ميونخ بألمانيا، حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة، وما لبث أن عاد إلى لندن؛ لحضور الامتحان النهائي في الحقوق، فحصل على درجة عالية في القانون، وفي لندن عَمِل في تدريس اللغة العربية في جامعتها، وحاضر كثيرًا عن الإسلام، فساهم بجهد كبير في نشر الدعوة، وفي المقارنة بين الفلاسفة المسلمين كابن سينا وابن رشد وابن عربي وجلال الدين الرومي، وبين فلاسفة أوربيين: كهيجل ونيتشه، وشوبنهاور، فذاع صيته في الآفاق: في تركيا وروسيا وبلاد الأفغان.
وقد تُرجمت أعماله، واهتمَّ بها كثير من فلاسفة الغرب، فقارنوا بينه وبين "جوته" وكذلك بينه وبين "نيتشه"، حتى قامت في ألمانيا (جماعة إقبال) تُشْرِف على ترجمة آثاره، وكذا فعل المسيو "إسكاريا "في إيطاليا، و"نكلسون" في أمريكا، و"عبد الوهاب عزام" في مصر.
دفاعه عن الإسلام:
قام محمد إقبال بالعديد من المساهمات العلميَّة الجادَّة التي كانت سببًا رئيسًا في الدفاع عن الإسلام، فكانت فلسفته قائمة على القوَّة والوَحدة، وقبل وفاته بستَّة أشهر زاره العلامة أبو الحسن الندوي، فعبَّر له إقبال عن نظرته للفلسفة قائلًا: "إن علوم الطبيعة تلتقي مع الإسلام على الجدِّ والعمل والبعد عن البحوث الفلسفيَّة التي لا جدوى فيها، وقد ظلَّت هذه الروح متغلغلة في المجتمع الإسلامي قرنين، وبقي متمسِّكًا بالعقيدة والعمل والسيرة والخلق حتى طغت عليه الفلسفة الإغريقية...".
ثم تحدث إقبال عن الفلسفة الإلهية، وكيف شغلت الشرق واستهلكت قواه، وذكر أن أوربا إنما نهضت وملكت العالم لمَّا ثارت على هذه الفلسفة أي فلسفة ما بعد الطبيعة، وبدأت تشتغل بعلوم الطبيعة المجدية المنتجة، ولكن قد حدث وثار من المسائل في هذا العصر ما يخاف معه أن ترجع أوربا القهقرى، وذكر أن العقل العربي كان الأقدر على فهم الإسلام فهمًا صحيحًا، والأجدر على حمل أمانته[1].
أمَّا شعر إقبال فإنه يتميَّز بذوبانه وراء شعلة الإسلام التي ملأت العالم نورًا وحرارة، وقد قضى حياته في البحث عن تلك الأمجاد التي مضت، وأولئك الأبطال الذين رحلوا وغابوا في غياهب الماضي، فشِعره يوقظ العقول، ويهزُّ النفوس، ويُربي الآمال في الصدور، ولا عجب إذا كان شعره يملأ القلوب حماسة وإيمانًا، وكان وقعه في النفس كبيرًا وعميقًا، فقد سالت في شعره دموعه ودماؤه، وفاضت فيه مهجته ودعاؤه!
وإقبال من الشعراء القليلين الذين وهبوا حياتهم للفكرة الإسلاميَّة، فأقام شعره وقلمه وبيانه في سبيل تجلية عظمة الإسلام وفضله، وما من شاعر ممن كتبوا عن الإسلام إلاَّ شاركوا فيه فنونًا أُخَر ما عدا إقبال[2].
فشِعر إقبال مليء بالمعاني الإيمانيَّة القويَّة، التي فيها يسير إقبال مع القارئ يُخبره عن الإيمان، ويوصله بطريق انسيابيَّة نحو الله تعالى، فيقول:
أين ما يُدْعَى ظلامًا يا رفيق الليل أين *** إن نور الله في قلبي وهذا ما أراهُ
قد مشينا في ضياء الوحي حبًّا واهتدينا *** ورسول الله قاد الرَّكْب تحدوهُ خطاهُ[3]
ويقول إقبال في قصيدته الطويلة "شكوى" وهي دمعة أرسلها من عينه وتكلَّم بها في قصيدة يشكو إلى الله حال العالم الإسلامي، يشكو من المسلمين ويشكو من بُعدهم عن دينهم وعن رسالتهم، ويبيِّن لهم أنَّ الانتصار لن يتحقَّق إلاَّ بالإيمان, وأن الإنسان لا يصلح إلاَّ بالإيمان وأنَّ الدنيا لا تصلح إلاَّ بالآخرة، وأنَّ المسجد لا يصلح إلاَّ مع المزرعة والمزرعة مع المسجد، هذا هو ما يريد أن يقوله للناس. فيقول عن هذا:
إذا الإيمان ضاع فلا أمانَ *** ولا دنيا لمن لم يحي دينَا
ومَن رَضِيَ الحياة بغير دِين *** فقد جعل الفناء لها قرينَا
تُسانِدُها الكواكب فاستقرَّتْ *** ولولا الجاذبيَّة ما بَقِينَا
وفي التوحيد للْهِمَمِ اتحادٌ *** ولن نصل العلا متفرِّقينَا[4]
كما يصف الكافر قائلًا:
إنَّما الكافر تيهانِ *** له الآفاق تيهْ
وأرى المؤمن كونًا *** تاهت الآفاق فيهْ[5]
ويصف مشاعره وأحاسيسه في قصيدة اسمها (إلى مدينتك يا رسول الله)، التي ترجمها أبو الحسن الندوي نثرًا:
يا رسول الله، زرتك البارحة في المنام، فأتيتُ إليك أشكو ظلم الهنود، وأشكو ما فعلوا برسالتك، إنهم يا رسول الله، حوَّلوا رسالتك إلى تمائم ومسابح وإلى رقصات، إن رسالتك يا رسول الله، انبعثت من المدينة فأحيتني، وأحيت أمثالي, لكنْ رَفَضَ الهنودُ أنْ يستجيبوا لك يا رسول الله.
ثم يصف خروج الرسالة من طيبة الطيبة وذهابها إلى العراق ثُمَّ إلى الأتراك ثُمَّ إلى الهنود، وأنها ترتفع بإذن الله لتغطِّي الدنيا:
مِنْ ثَرَاهَا قَدْ كَتَبْنَا النُّور في دنيا الوجودْ *** وعلى أهْدابها صُغْنَا معانٍ من خلودْ
حِكْمَةُ الإيمان من طِيبَةَ سَارَتْ للْعِرَاقِ *** وهفا الأتراكُ في دُنْيَا رُؤاها والهنودْ[6]
علاقته بالمشاهير والحكام:
كانت قضيَّته الكبرى أنْ يُؤْمِنَ الناسُ، فأرسل رسالة إلى لينين، وكان محمد إقبال مشهورًا على مستوى العالم يعرفه لينينُ، ويعرفه أذناب الشرق والغرب، يقول: "اتَّقِ الله يا لينين، فإنك قصمت ظهر الرأسماليَّة فأحسنت، فألحق بقصمك للرأسماليَّة لا إله إلا الله". ولينين هذا ثار على الحقِّ الفردي في الرأسمالية, ولكنه أخرب كل الخراب عليه لعنة الله، كفر بالله.
ودخل على نادر شاه في كابل, ونادر شاه كان ملك أفغانستان آنذاك، وكتب رسالة إلى محمد إقبال يقول: "اقدَم إلينا، اقدَم إلينا". فدخل محمد إقبال فخرج الأفغان ألوفًا مؤلَّفة في الشوارع يستقبلونه، فأخذ -قبل أن يقابل الرئيس أو الملك- نسخة من المصحف وأعطاه، وقال: يا نادر شاه، والله لن تعلُوَ بشعب الأفغان حتى تأخذ هذه الوثيقة, إنني أتيت بها من الله. يعني: أن هذا القرآن من الله.
حبه لكل عربي ومسلم:
أحبَّ إقبال كل ما هو عربي، فأحب الحجاز لأن فيها رسولَ الله؛ ولأن في الحجاز نورًا انبعث، وفيها رسالة خالدة، وفيها جماجم الأبطال؛ ولأن في الحجاز مخرجًا من مخارج التوحيد والتاريخ، وله قصيدة اسمها "ناقتي في الحجاز" وصف نفسه وهو يبكي، ويقول: يا ليتني أعتمر مرَّة ثانية. ولم تكن متيسِّرة له, كان يدرس في الجامعة الفلسفةَ، وشرح ديوان المتنبي, وكان يدور في الليل والنهار ويُلقي محاضرات، وفي آخر عمره كان يُلقي في اليوم الواحد عشر محاضرات[7].
ويقول وهو يتفجَّع على المسلمين وقد زار قرطبة، ووقف أمام الجامع ولم يجد المسلمين, وجد المسجد قد حُوِّل إلى حانات من الخمر، ووجد العاهرات وهنَّ في محراب المسجد؛ فبكى، وجلس عند الباب، وأنشد قصيدته الفضفاضة الشهيرة في مسجد قرطبة وهو يقول:
أرى التفكيرَ أدركَهُ خمولِي *** ولَمْ تَبْقَ العزائم في اشتعالِ
وأصبح وعظكمْ من غير نورٍ *** ولا سحرٍ يطلُّ من المقالِ
وعند الناس فلسفةٌ وفكرٌ *** ولكن أين تَلْقِينُ الغزالِي
وجلجلة الأذان بكلِّ حيٍّ *** ولكنْ أين صَوْتٌ مِنْ بلالِ
منائركمْ عَلَتْ في كلِّ ساحٍ *** ومسجدكمْ مِنَ العُبَّادِ خالِي[8]
وقد علَّم إقبال الجماهير المسلمة الفرق الجلي بين الحضارة الأوربيَّة والأمريكيَّة الخاوية على عروشها من أي معنًى من معاني الإيمان والرُّوح، وبين الحضارة المسلمة التي جمعت بين الدين والدولة، بين الناحية الرُّوحية التي يحتاج إليها الإنسان في كلِّ يوم، وبين الناحية المادِّيَّة التي تنهض بها الأرض في نطاق قضية الإعمار التي أشار إليها القرآن الكريم، ومن ثَمَّ أتى محمد إقبال إلى المسلمين، وأعلن أن الحضارة محتاجة إلى إيمان المؤمنين، وصلاة المصلِّين، وصدق الصادقين، يقول للمسلم:
أنت كنز الدّر والياقوت في *** لجَّة الدنيا وإنْ لم يعرفوكَ
محْفَلُ الأجيال محتاجٌ إلى *** صوتك العالي وإن لم يسمعوكَ[9]
ويقول: ليس في العالم إلاَّ أنت، ولا يضرُّك هذا الضجيج والإعلام والفلسفة؛ لأن أذناب العلمنة الذين وُلدوا في لوس أنجلوس ودرسوا في ديفرسايد، ولا يعرفون القرآن ولا زمزم ولا توضَّئوا بالماء، طلسموا عقول الناس وجعلوا الدين خرافة ورجعيَّة.
وظلَّ طَوَال سنوات حياته يهتمُّ بالمجموع، واهتمامه بكل ما يُعيد للأُمَّة الإسلاميَّة مجدها وحضارتها؛ لذلك استنكر على كمال أتاتورك إسقاطه الخلافة؛ حيث ردَّ عليه بقصيدته المشهورة (خطاب إلى مصطفى كمال باشا) في ديوانه رسالة الشرق، حيث عبَّر عن حزنه على تغريب المجتمع التركي، وتقليد أتاتورك للأفكار الغربيَّة بما سماَّه الإصلاحات، ليس ذلك فحسب بـل انـتقـد عـصبة الأمـم المتحـدة في ذلك الوقـت؛ لأنها منظَّمة بلا حياة تعمل لصالح المستعمِر فقط:
صوَّر الغاصبُ عدلًا ظلمه *** ما هو التفسير للعدْل الجديدِ
زادَ فـي التَّحْرير معنى أنَّه *** يُحكم القيْدَ لِتَحْرِير العبيدِ
قال للطير: إذا رُمْتَ الأمان *** فاتخذْ في منزل الصَّيَّاد وَكْرَا
ليس في الأجواء للطير مكانٌ *** ولا تَأْمَنَّ في الصحراء نَسْرَا[10]
لذا فإن أدب العلاَّمة محمد إقبال -رحمه الله- يُعتبر من القواعد التي تشكَّلت على أُطُرِهَا أسس الأدب الإسلامي؛ حيث أشرقت البدايات الأولى في شبه القـارة الهنديَّة، ووجدت أذانًا صاغية في العالم الإسلامي للاستفادة من المَضَامِينِ الإسلاميَّة، وصياغة الأدب الإسلامي وَفْقَ الأسس التي اتَّبَعَها العلامة محمد إقبال في صياغة خطابه الأدبي؛ كالمضمون القرآني فنِّيًّا من حيث الأسلوب وجماليَّات اللغة، والمضمون النبوي والسنة المطهَّرة من حيث الأفكار وأحاديث الرسولوسيرته العطرة، والمضمون الإنساني من حيث العلوم والتجارِب الإنسانيَّة بما في ذلك المناهج الأدبيَّة والرحـلات[11].
اهتمام الأدباء العرب بشعر إقبال:
اهتمَّ كثير من الأدباء العرب بإبداعات محمد إقبال مثل عبد الوهاب عزام، والشيخ الصاوي شعلان، ومحمد حسن الأعظمي، وغيرهم، فترجموا أعماله إلى اللغة العربيَّة، ثم نَظَمَها بعضهم على نسق شعري، فقصيدة: "ملكنا هذه الدنيا" التي نَظَمها الشيخ الصاوي شعلان تحمل في ثناياها أمجاد الأُمَّة الإسلاميَّة في صورة بيانيَّة جميلة، فكلُّ بيت من أبياتها لوحة فنِّيَّة تُعَبِّر تعبيرًا صادقًا عمَّا مرَّت به الأُمَّة الإسلاميَّة من أطوار حضاريَّة ستظلُّ خالدة في الصدور قبل الطلول، فيُعَبِّر إقبال عن هذه الحضارة التالدة، بنظم الشيخ الصاوي شعلان:
مَلَكْنَا هذه الدنيا القرونَا *** وأخضعها جدودٌ خالدونَا
وسطَّرْنا صحائفَ من ضياء *** فما نَسِيَ الزمان ولا نسِينَا
وكنَّا حين يأخذنا قويٌّ *** بطغيان ندوسُ له الجبينَا
تفيضُ قلوبنا بالهدي بأسًا *** فما تغضي عن الظلم الجنونَا[12]
ولا يلبث إقبال ليخرج من قصيدة شعريَّة تقوم حكمتها على المعاني الإسلاميَّة القائمة على الوَحدة والقوَّة والاعتصام بالله وبرسوله، إلاَّ ويدخل في قصيدة أخرى تقوم معانيها على التأمُّل في الكون المحيط بالإنسان، الذي إذا أنعم الإنسان نظره فيه، قُرِّبَ من الله تعالى، والقصيدة القادمة التي ترجمها الدكتور عبد الوهاب عزام بعنوان (تأمُّلات) تقوم على المقارنة الفكريَّة المجرَّدة بين الماضي والحاضر، فماضي المسلمين مليء بكلِّ ما يُثير فكر الإنسان المسلم المعاصر بكلِّ تساؤل عن حقيقة هذه الحضارة الفانية بأشخاصها، والباقية بآثارها من نواحٍ مادِّيَّة يستغرب لها كلَّ مَنْ عاينها، ويستهدي بكلِّ ضلالٍ من اهتدى بها، فيقول إقبال في أبيات فلسفيَّة عميقة تُعبِّر عمَّا يمور في قلبه تجاه ما هو إسلامي، حتى غدا هذا الشاعر أبا الشعراء المسلمين الذين قَدِمُوا من بعده:
ضاق عن معنايَ حرفٌ وصدَى *** عجَزَ الإدراك في هذا المدَى
قُلتُ واللفظ من المعنى خجل *** وشَكَا المعنى من اللفظ المحل
مات معنى في حروف يُحبسُ *** ناره يخمد منك النفس
سرُّ غيبٍ وحضورٍ في القلوب *** زَمْرُ وقتٍ ومرور في القلوب
إن للوقت للحنًا صامتَا *** وله في القلب سرًّا خافتَا
أين أيامٌ بها سيف الدُّهُرْ *** صرَّفتْه في أَيَادينا القُدرْ؟
قد غرسْنَا الدين في أرض القلوبْ *** وجلونا الحقَّ من ستر العيوبْ[13]
دور الشعر في توجيه المجتمع:
رأى إقبال أنَّ الأدب موهبة كبيرة من مواهب الله تعالى، وقوَّة عظيمة يستطيع صاحبها أنْ يحدِثَ انقلابًا في المجتمع، وثورة فكريَّة، وبه يستطيع الشاعر أن يضرب الأوضاع الفاسدة الضربةَ القاضية، ويُشعل القلوب الحماسة والغضب لكلِّ ما هو سيِّئ، ويملأ النفوس قلقًا واضطرابًا وتذمُّرًا من الشرِّ، وتطلُّعًا إلى الخير، فلا بُدَّ أن يكون في قلم الأديب والشاعر التأثيرُ الذي كان في عصا موسى، وأنْ يُؤَدِّيَ رسالته في العالم، وكلُّ أدب استُغِلَّ لجمع المادَّة، أو إرضاءِ الأغنياء والأثرياءِ، أو إثارةِ الشهوات، أو على الأقلِّ كان أداة اللهو والتسلية والتذوُّق بالجمال والتغنِّي به، فهو أدبٌ ضائع مظلوم، استُعْمِل لغير ما خُلق له، ولغير ما وُهب له؛ حيث يقول في بيت من أبياته: "أنا لا أعارض التذوق بالجمال والشعور به، فذلك أمر طبيعي، ولكن أي فائدة للمجتمع من عِلْمٍ لم يكن تأثيره في المجتمع كتأثير عصا موسى في الحجر والبحر".
ويرى إقبال أنَّ الأدب في الشرق الإسلامي أصبحت مادَّته تدور حول المرأة، فأصبح لا يتحدَّث إلاَّ عنها، ولا يتغنَّى إلاَّ بها، ولا يبحث إلاَّ فيها، ولا يُصوِّر إلاَّ إيَّاها، ولا يرى في الكون إلاَّ ظلَّها وجمالها، وهذه عقيدة جديدة، في وَحدة الوجود التي يمكن أنْ تُسَمَّى الوجوديَّة الأدبيَّة، وكأنَّ لسان حال الأدب العصري ينادي: (لا موجود إلاَّ المرأة)، وفي هذا يقول إقبال: "أسفًا للشعراء والرسامين وكُتَّاب القصَّة في بلادنا، لقد استولت على أعصابهم المرأة"[14].
وبعد هذه الجولة المختصرة مع شاعر الإسلام محمد إقبال نجد أنَّ شعره لم يتعدَّ الإسلام، ولم يجاوزه فهو إسلامي بكلِّ ملكاته، بكل جوارحه، ولم ينزلق في أي غرض شعري آخر، حتى غدت القضيَّة الإسلاميَّة هي الهاجس والغاية التي بها آمن، وفيها وُجد شعره، ومنها نشأت دولة إسلاميَّة عظيمة هي الأرض الطاهرة، أو دولة "الباكستان"، ومن ثَمَّ فإقبال يكاد يكون المفكِّر والشاعر العالمي الذي استطاع بشعره الإسلامي أنْ يُوَحِّدَ أُمَّة إسلاميَّة جديدة في قطر إسلامي عظيم.
فهذا الداعية الإسلامي إنما صحَّ عزمه على إصلاح الدنيا بالدين، فلزم من هذا أنْ يُقيم معاني الإيمان، لدعم كل ما هو حقٌّ بما ورد في القرآن، ورأى القوم وقد تفرَّقوا عن سبيل الله، وتحوَّل غير قليل منهم عن جانب الحقِّ إلى جانب الباطل، فكان حتمًا من الحتم أن يُذَكِّرهم بكتابهم، ويدعوهم إلى تقليب نظرهم فيه، لعلَّهم أنْ يتعلَّموا منه ما لم يكونوا يَعْلَمُون، أو ينتبهوا إلى ما كانوا عنه ذاهلين.
ولا نعرف -أو نكاد- من شعراء العربيَّة أو الفارسيَّة أو التركيَّة مَنْ جعل لكتاب الله في شعره مثل تلك المنزلة التي جعلها إقبال له، أو على التحديد لم ينط أحد تفكيره وتعبيره في ثبات ودوام، ولا قصر عليه اهتمامه على أنَّه النبع الأوحد الذي يستقي منه شعره، والنبراس الذي لا يحمل سواه لهداية مَنْ ضلُّوا السبيل في الدياجي، بعد انقطاعهم عن ركب الهدى، وهم ينقلون خطاهم وراء خير مَن هدى، وقد جعل النقل والعقل في كفَّتي ميزان، وهما كفَّتان تتراجحان، إلاَّ أنَّ كفَّتيه فيما يتعلَّق بالقرآن، فكانتا مستويتين؛ لأن النقل عن القرآن يؤيِّد العقل، كما يجد العقل في القرآن فلكًا يدور فيه ولا يملك أن يخرج عنه[15].
وفاة محمد إقبال:
فاضت روح الشاعر محمد إقبال إلى بارئها في 21 من إبريل 1938م، وكان يومًا عصيبًا في حياة جماهير الهند عامة والمسلمين منهم خاصة؛ فعطلت المصالح الحكومية، وأغلقت المتاجر أبوابها، واندفع الناس إلى بيته جماعات وفرادى، ونعاه قادة الهند وأدباؤها من المسلمين والهندوس على السواء، ويقول عنه طاغور - شاعر الهند: "لقد خلفت وفاة إقبال في أدبنا فراغًا أشبه بالجرح المثخن الذي لا يندمل إلا بعد أمد طويل، إن موت شاعر عالمي كإقبال مصيبة تفوق احتمال الهند التي لم ترتفع مكانتها في العالم"[16].