قُلْ َأ عوذُ بِر ب الْفَلَقِ 1 مِن ش ر ما خلَ ق 2 ومِن ش ر غَاسِقٍ إِذَا وقَب 3 ومِن ش ر النفَّاثَاتِ
_ فِي الْعقَدِ 4 ومِن ش ر حاسِدٍ إِذَا حسد 5
| | |
هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله - سبحانه وتعالى - لنبيه ع ابتداء وللمؤمنين من بعده
جميعا، للعياذ بكنفه ، واللياذ بحماه ، من كل مخوف : خاف وظاهر ، مجهول ومعلوم ، على وجه الإجمال
وعلى وجه التفصيل .. وكأنما يفتح الله - سبحانه - لهم حماه ، ويبسط لهم كنفه ، ويقول لهم ، في مودة
وعطف: تعالوا إلى هن ا. تعالوا إلى الحمى . تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه . تعالوا فأنا أعلم أنكم
ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا .. هنا الأمن والطمأنينة والسلام ..
ومن ثم تبدأ كل منهما ذا التوجيه . " قل: أعوذ برب الفلق " .. " قل: أعوذ برب الناس
.. "
وفي قصة نزولها وقصة تداولها وردت عدة آثار ، تتفق كلها مع هذا الظل الذي استروحناه ،
والذي يتضح من الآثار المروية أن رسول الله ع استروحه في عمق وفرح وانطلاق:
عن عقبة - ابن عامر ا أن رسول الله ع قال: " ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير
.. " ( مثلهن قط؟ " قل: أعوذ برب الفلق " " وقل: أعوذ برب الناس ( 1
وعن جابر ا قال: قال لي رسول الله ع : " اقرأ يا جابر " . قلت: ماذا بأبي أنت وأمي ؟
قال " اقرأ: " قل أعوذ برب الفلق " . " وقل أعوذ برب الناس " فقرأما. فقال: " اقرأ ما فلن
.. " ( تقرأ بمثلهما ( 2
وعن ذر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب ا عن المعوذتين . قلت: يا أبا المنذر إن أخاك
ابن مسعود يقول كذا وكذا [ وكان ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد
1) أخرجه مالك ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. )
2) أخرجه النسائي. )
منبر التوحيد والجهاد
3
أثبتهما في المصحف ] فقال: سألت رسول الله ع فقال: " قيل لي : قل. فقلت " . فنحن نقول كما
قال رسول الله ع ( 1) وكل هذه الآثار تشي بتلك الظلال الحانية الحبيبة ..
| | |
وهنا في هذه السورة يذكر الله - سبحانه - نفسه بصفته التي ا يكون العياذ من شر ما ذكر في
السورة.
" قل أعوذ برب الفلق " .. والفلق من معانيه الصبح، ومن معانيه الخلق كله . بالإشارة إلى
كل ما يفلق عنه الوجود والحياة ، كما قال في الأنعام: " إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من
الميت ومخرج الميت من الحي " .. وكما قال : " فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر
حسبانا " ..
وسواء كان هو الصبح فالا ستعاذة برب الصبح الذي يؤمن بالنور من شر كل غامض مستور ،
أو كان هو الخلق فالاستعاذة برب الخلق الذي يؤمن من شر خلقه، فالمعنى يتناسق مع ما بعده ..
" من شر ما خلق " .. أي من شر خلقه إطلاقا وإجمالا . وللخلائق شرور في حالات اتصال
بعضها ببعض . كما أن لها خيرا و نفعا في حالات أخرى . والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيره ا.
والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها!
" ومن شر غاسق إذا وقب " .. والغاسق في اللغة الدافق ، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها
الماء. والمقصود هن ا - غالبا - هو الليل وما فيه . الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة . والليل حينئذ مخوف
بذاته. فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء : من وحش مفترس يهجم . ومتلصص
فاتك يقتحم . وعدو مخادع يتمكن . وحشرة سامة تزحف . ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان
تتسرب في الليل ، وتخنق الم شاعر والوجدان ، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء . ومن
شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام. ومن ظاهر وخاف يدب ويثب، في الغاسق إذا وقب!
" ومن شر النفاثات في العقد " .. والنفاثات في العقد : السواحر الساعيات بالأذى عن طريق
خداع الحواس ، وخداع الأعصاب ، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر . وهن يعقدن العقد في نحو
خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء!
1) أخرجه البخاري. )
منبر التوحيد والجهاد
4
والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء ؛ ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنه يخيل للحواس والمشاعر
بما يريده الساحر . وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام: سورة طه "
قالوا: يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى . قال: بل ألقو ا. فإذا حبالهم وعصيهم يخيل
إليه من سحرهم أا تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى . قلنا: لا تخف إنك أنت الأعلى . وألق ما
في يمينك تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " .. ..
وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلا ، ولكن خيل إلى الناس - وموسى معهم - أا
تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة ، حتى جاءه التثبيت. ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا
موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المزورة المسحورة.
وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلم ا. وهو ذه الطبيعة يؤثر في الناس ، وينشئ لهم
مشاعر وفق إيحائه .. مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر ، وعند هذا الحد
نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد .. وهي شر يستعاذ منه بالله، ويلجأ منه إلى حماه.
وقد وردت روايات - بعضها صحيح ولكنه غير متواتر - أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر
النبي ع في المدينة .. قيل أيام ا، وقيل أشهر ا .. حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن في
رواية، وحتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله في رواية ، وأن السورتين نزلتا رقية لرسول الله ع
فلما استحضر السحر المقصود - كما أخبر في رؤياه - وقرأ السورتين انحلت العقد، وذهب عنه السوء.
ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن
كل فعل من أفعاله ع وكل قول من أقواله سنة وشريعة ، كما أا تصطدم بنفي القرآن عن الرسول ع
أنه مسحور ، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك . ومن ثم تستبعد هذه الروايات ..
وأحاديث الآحاد لا يؤخذ ا في أمر العقيدة . والمرجع هو القرآن . والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في
أصول الاعتقاد . وهذه ا لروايات ليست من المتواتر . فضلا على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو
الراجح. مما يوهن أساس الروايات الأخرى.
" ومن شر حاسد إذا حسد " ..
والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زواله ا. وسواء أتبع الحاسد هذا
الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي ، فإن شرا
يمكن أن يعقب هذا الانفعال.
منبر التوحيد والجهاد
5
ونحن مضطرون أن نطامن من حدة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود ، وأسرار النفس
البشرية، وأسرار هذا الجهاز الإنساني . فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار ، ولا نم لك لها حتى
اليوم تعليلا .. هنالك مثلا ذلك التخاطر على البعد . وفيه تتم اتصالات بين أشخاص متباعدين .
اتصالات لا سبيل إلى الشك في وقوعها بعد تواتر الأخبار ا وقيام التجارب الكثيرة المثبتة له ا. ولا
سبيل كذلك لتعليلها بما بين أيدينا من معلومات . وكذلك التنويم الم غناطيسي. وقد أصبح الآن موضعا
للتجربة المتكررة المثبتة . وهو مجهول السر والكيفية .. وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود
وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني .. .
فإذا حسد الحاسد ، ووجه انفعالا نفسيا معينا إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه رد
أن ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار ، لا تصل إلى سر هذا الأثر وكيفيته . فنحن لا ندري إلا القليل في
هذا الميدان. وهذا القليل يكشف لنا عنه مصادفة في الغالب، ثم يستقر كحقيقة واقعة بعد ذلك!
.. ( فهنا شر يستعاذ منه بالله، ويستجار منه بحماه ( 1
والله برحم ته وفضله هو الذي يوجه رسوله ع وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور .
ومن المقطوع به أم متى استعاذوا به - وفق توجيهه - أعاذهم. وحماهم من هذه الشرور إجمالا
وتفصيلا.
وقد روى البخاري - بإسناده - عن عائشة ل أن النبي ع كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة
جمع كفيه ، ثم نفث فيهم ا، وقرأ فيهم ا، " قل هو الله أحد " .. و " قل: أعوذ برب الفلق " .. و "
قل: أعوذ برب الناس " .. ثم يمسح ما ما استطاع من جسده ، يبدأ ما على رأسه ووجهه ، وما
أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات .. وهكذا رواه أصحاب السنن .. .
1